البعوث والسرايا بعد غزوة المريسيع
سرية عبد الرحمن بن عوف إلى ديار بني كلب بدومة الجندل، في شعبان سنة 6هـ أقعده رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بين يديه، وعممه بيده، وأوصاه بأحسن الأمور في الحرب، وقال له إن أطاعوك فتزوج ابنة ملكهم، فمكث عبد الرحمن بن عوف ثلاثة أيام يدعوهم إلى الإسلام،فأسلم القوم وتزوج عبد الرحمن تماضر بنت الأصبغ، وهي أم أبي سلمة، وكان أبوها رأسهم وملكهم. سرية علي بن أبي طالب إلى بني سعد بن بكر بفدك في شعبان سنة 6هـ وذلك أنه بلغ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بها جمعاً يريدون أن يمدوا اليهود. فبعث إليهم علياً في مائتي رجل، وكان يسير الليل ويكمن النهار، فأصاب عيناً لهم فأقر أنهم بعثوه إلى خيبر يعرضون عليهم نصرتهم على أن يجعلوا لهم تمر خيبر. ودل العين على موضع تجمع بني سعد، فأغار عليهم علي، فأخذ خمسمائة بعير وألفي شاة، وهربت بنو سعد بالظعن، وكان رئيسهم وبر بن عليم.
وبين الناس، وإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا وإلا فقد جموا، وإن أبوا إلا القتال فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، أو ينفذن للَّه أمره. قال بديل سأبلغهم ما تقول، فانطلق حتى أتى قريشاً فقال: إني قد جئتكم من عند هذا الرجل، وسمعته يقول قولاً، فإن شئتم عرضته عليكم. فقال سفهاؤهم لا حاجة لنا أن تحدثنا عنه بشيء. وقال ذو الرأي منهم هات ما سمعته. قال: سمعته يقول كذا وكذا، فبعثت قريش مكرز بن حفص، فلما رآه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: هذا رجل غادر، فلما جاء وتكلم قال له مثل ما قال لبديل وأصحابه، فرجع إلى قريش وأخبرهم. رسل قريش: ثم قال رجل من كنانة - اسمه الحليس بن علقمة - دعوني آته. فقالوا: آته. فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن، فابعثوها، فبعثوها له، واستقبله القوم يلبون، فلما رأى ذلك. قال: سبحان اللَّه ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت، فرجع إلى أصحابه فقال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، وما أرى أن يصدوا، وجرى بينه وبين قريش كلام أحفظه. فقال عروة بن مسعود الثقفي: إن هذا قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ودعوني آته فقالوا: آته، فآتاه، فجعل يكلمه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم نحواً من قوله لبديل. فقال له عروة عند ذلك أي محمد أرأيت لو استأصلت قومك، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك، وإن تكن الأخرى فواللَّه إني لأرى وجوهاً، وأرى أوباشاً من الناس خلقاً أن يفروا ويدعوك، فقال له أبو بكر امصص بظر اللات، أنحن نفر عنه؟ قال: من ذا؟ قالوا: أبو بكر، قال: أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت عنديلم أجزك بها لأجبتك. وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم ، وكلما كلمه أخذ بلحيته، والمغيرة بن شعبة عند رأس النبي صلى الله عليه وسلم ، ومعه السيف وعليه المغفر، فكلما أهوى عروة إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف وقال: أخر يدك عن لحية رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فرفع عروة رأسه وقال: من ذا؟ قالوا: المغيرة بن شعبة، فقال: أي غدر، أو لست أسعى في غدرتك؟ وكان المغيرة صحب قوماً في الجاهلية فقتلهم، وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء وكان المغيرة ابن أخي عروة. ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وعلاقتهم به، فرجع إلى أصحابه، فقال: أي قوم، واللَّه لقد وفدت على الملوك، على قيصر وكسرى والنجاشي، واللَّه ما رأيت ملكاً يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً، واللَّه إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له، وقد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها. هو الذي كف أيديهم عنكم: ولما رأى شباب قريش الطائشون، الطامحون إلى الحرب رغبة زعمائهم في الصلح فكروا في خطة تحول بينهم وبين الصلح، فقرروا أن يخرجوا ليلاً ويتسللوا إلى معسكر المسلمين، ويحدثوا أحداثاً تشعل نار الحرب، وفعلاً قد قاموا بتنفيذ هذا القرار، فقد خرج سبعون أو ثمانون منهم ليلاً فهبطوا من جبل التنعيم، وحاولوا التسلل إلى معسكر المسلمين، غير أن محمد بن سلمة قائد الحرس اعتقلهم جميعاً. ورغبة في الصلح أطلق سراحهم النبي صلى الله عليه وسلم وعفا عنهم، وفي ذلك أنزل اللَّه: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} [الفتح: 24>. عثمان بن عفان سفيراً إلى قريش: وحينئذ أراد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يبعث سفيراً يؤكد لدى قريش موقفه وهدفه من هذا السفر، فدعا عمر بن الخطاب ليرسله إليهم، فاعتذر قائلاً يا رسول اللَّه ليس لي بمكة أحد من بني كعب يغضب لي إن أوذيت، فأرسل عثمان بن عفان، فإن عشيرته بها، وإنه مبلغ ما أردت، فدعاه، وأرسله إلى قريش، وقال: أخبرهم إنا لم نأت لقتال، وإنما جئنا عماراً، وادعهم إلى الإسلام وأمره أن يأتي رجالا بمكة مؤمنين ونساء مؤمنات، فيبشرهم بالفتح، ويخبرهم أن اللَّه عز وجل مظهر دينه بمكة، حتى لا يستخفي فيها أحد بالإيمان. فانطلق عثمان حتى مر على قريش ببلدح، فقالوا: أين تريد؟ فقال: بعثني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، قالوا: قد سمعنا ما تقول، فانفذ لحاجتك وقام إليه أبان بن سعيد بن العاص، فرحب به ثم أسرج فرسه، فحمل عثمان على الفرس، وأجاره وأردفه حتى جاء مكة، وبلغ الرسالة إلى زعماء قريش. فلما فرغ عرضوا عليه أن يطوف بالبيت، لكنه رفض هذا العرض، وأبى أن يطوف حتى يطوف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. إشاعة مقتل عثمان وبيعة الرضوان: واحتبسته قريش عندها - ولعلهم أرادوا أن يتشاوروا فيما بينهم في الوضع الراهن، ويبرموا أمرهم، ثم يردوا عثمان بجواب ما جاء به من الرسالة - وطال الاحتباس، فشاع بين المسلمين أن عثمان قتل، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لما بلغته تلك الإشاعة لا نبرح حتى نناجز القوم، ثم دعا أصحابه إلى البيعة، فثاروا إليه يبايعونه على أن لا يفروا، وبايعته جماعة على الموت، وأول من بايعه أبو سنان الأسدي، وبايعه سلمة بن الأكوع على الموت ثلاث مرات في أول الناس ووسطهم وآخرهم، وأخذ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بيد نفسه وقال: هذه عن عثمان. ولما تمت البيعة جاء عثمان فبايعه، ولم يتخلف عن هذه البيعة إلا رجل من المنافقين يقال له جد بن قيس. أخذ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هذه البيعة تحت شجرة، وكان عمر آخذاً بيده، ومعقل بن يسار آخذاً بغصن الشجرة يرفعه عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهذه هي بيعة الرضوان التي أنزل اللَّه فيها: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18>. إبرام الصلح وبنوده: وعرفت قريش حراجة الموقف، فأسرعت إلى بعث سهيل بن عمرو لعقد الصلح، وأكدت له أن لا يكون في الصلح إلا أن يرجع عنا عامه هذا. لا تتحدث العرب عنا أنه دخلها علينا عنوة أبداً. فأتاه سهيل بن عمرو، فلما رآه عليه السلام قال: قد سهل لكم أمركم، أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل، فجاء سهيل فتكلم طويلاً ثم اتفقا على قواعد الصلح وهي هذه: الرسول صلى الله عليه وسلم يرجع من عامه، فلا يدخل مكة، وإذا كان العام القابل دخلها المسلمون فأقاموا بها ثلاثاً، معهم سلاح الراكب، السيوف في القرب، ولا تتعرض لهم بأي نوع من أنواع التعرض. وضع الحرب بين الطرفين عشر سنين، يأمن فيها الناس، ويكف بعضهم عن بعض. من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش، وعهدهم دخل فيه، وتعتبر القبيلة التي تنضم إلى أي الفريقين جزءاً من ذلك الفريق، فأي عدوان تتعرض له أي من هذه القبائل يعتبر عدواناً على ذلك الفريق. من أتى محمداً من قريش من غير إذن وليه - أي هارباً منهم - رده عليهم، ومن جاء قريشاً ممن مع محمد - أي هارباً منه - لم يرد عليه. ثم دعا علياً ليكتب الكتاب فأملى عليه بسم اللَّه الرحمن الرحيم فقال سهيل ما الرحمن فواللَّه لا ندري ما هو؟ ولكن اكتب باسمك اللهم. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم علياً بذلك. ثم أملى (هذا ما صالح عليه محمد رسول اللَّه) فقال سهيل: لو نعلم أنك رسول اللَّه ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب محمد بن عبد اللَّه فقال: إني رسول اللَّه وإن كذبتموني، وأمر علياً أن يكتب محمد بن عبد اللَّه، ويمحو لفظ رسول اللَّه، فأبى علي أن يمحو هذا اللفظ. فمحاه صلى الله عليه وسلم بيده، ثم تمت كتابة الصحيفة، ولما تم الصلح دخلت خزاعة في عهد -رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وكانوا حليف بني هاشم منذ عهد عبد المطلب كما قدمنا في أوائل المقالة، فكان دخولهم في هذا العهد؛ تأكيداً لذلك الحلف القديم - ودخلت بنو بكر في عهد قريش. رد أبي جندل: وبينما الكتاب يكتب إذ جاء أبو جندل بن سهيل يرسف في قيوده، قد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين ظهور المسلمين، فقال سهيل هذا أول ما أقاضيك عليه على أن ترده. فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنا لم نقض الكتاب بعد. فقال: فواللَّه إذا لا أقاضيك على شيء أبداً. فقال النبي صلى الله عليه وسلم فأجزه لي. قال: ما أنا بمجيزه لك. قال: بلى فافعل، قال: ما أنا بفاعل. وقد ضرب سهيل أبا جندل في وجهه، وأخذ بتلابيبه وجره؛ ليرده إلى المشركين، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته يا معشر المسلمين أأرد إلى المشركين يفتنوني في ديني؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يا أبا جندل اصبر واحتسب، فإن اللَّه جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً. إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحاً، وأعطيناهم على ذلك، وأعطونا عهد اللَّه فلا نغدر بهم. فوثب عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه مع أبي جندل يمشي إلى جنبه ويقول اصبر يا أبا جندل، فإنما هم المشركون، وإنما دم أحدهم دم كلب، ويدني قائم السيف منه يقول عمر رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه، فضن الرجل بأبيه ونفذت القضية. النحر والحلق للحل عن العمرة: ولما فرغ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من قضية الكتاب قال: قوموا، فانحروا، فواللَّه ما قام منهم أحد حتى قال ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد قام فدخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت: يا رسول اللَّه أتحب ذلك؟ اخرج، ثم لا تكلم أحداً كلمة حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك، فقام فخرج فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك، نحر بدنه، ودعا حالقه فحلقه، فلما رأى الناس ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضاً، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً زحاماً، وكانوا نحروا البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة، ونحر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جملاً كان لأبي جهل، كان في أنفه برة من فضة، ليغيظ به المشركين، ودعا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم للمحلقين ثلاثاً بالمغفرة وللمقصرين مرة. وفي هذا السفر أنزل اللَّه فدية الأذى لمن حلق رأسه بالصيام، أو الصدقة، أو النسك في شأن كعب بن عجرة. الإباء عن رد المهاجرات: ثم جاء نسوة مؤمنات فسأل أولياؤهن أن يردهن عليهم بالعهد الذي تم في الحديبية، فرفض طلبهم هذا، بدليل أن الكلمة التي كتبت في المعاهدة بصدد هذا البند هي وعلى أنه لا يأتيك منا رجل، وإن كان على دينك إلا رددته علينا فلم تدخل النساء في العقد رأساً. وأنزل اللَّه في ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ}[الممتحنة: 10> حتى بلغ: {بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} فكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يمتحنهن بقوله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} إلخ، فمن أقرت بهذه الشروط قال لها قد بايعتك. ثم لم يكن يردهن. وطلق المسلمون زوجاتهم الكافرات بهذا الحكم. فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك. تزوج بإحداهما معاوية، وبالأخرى صفوان بن أمية. ماذا يتمخض عن بنود المعاهدة: هذه هي هدنة الحديبية، ومن سبر أغوار بنودها مع خلفياتها لا يشك أنها فتح عظيم للمسلمين، فقريش لم تكن تعترف بالمسلمين أي اعتراف، بل كانت تهدف استئصال شأفتهم، وتنتظر أن تشهد يوماً ما نهايتهم، وكانت تحاول بأقصى قوتها الحيلولة بين الدعوة الإسلامية، وبين الناس، بصفتها ممثلة الزعامة الدينية والصدارة الدنيوية في جزيرة العرب، ومجرد الجنوح إلى الصلح اعتراف بقوة المسلمين، وأن قريشاً لا تقدر على مقاومتهم، ثم البند الثالث يدل فحواه على أن قريشاً نسيت صدارتها الدنيوية وزعامتها الدينية، وأنها لا تهمها الآن إلا نفسها، أما سائر الناس وبقية جزيرة العرب فلو دخلت في الإسلام بأجمعها، فلا يهم ذلك قريشاً، ولا تتدخل في ذلك بأي نوع من أنواع التدخل. أليس هذا فشلاً ذريعاً بالنسبة إلى قريش؟ وفتحا مبيناً بالنسبة إلى المسلمين؟ إن الحروب الدامية التي جرت بين المسلمين وبين أعدائهم لم تكن أهدافها - بالنسبة إلى المسلمين - مصادرة الأموال وإبادة الأرواح، وإفناء الناس، أو إكراه العدو على اعتناق الإسلام، وإنما كان الهدف الوحيد الذي يهدفه المسلمون من هذه الحروب هو الحرية الكاملة للناس في العقيدة والدين {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29>. لا يحول بينهم وبين ما يريدون أي قوة من القوات، وقد حصل هذا الهدف بجميع أجزائه ولوازمه، وبطريق ربما لا يحصل بمثله في الحروب مع الفتح المبين، وقد كسب المسلمون لأجل هذه الحرية نجاحاً كبيراً في الدعوة، فبينما كان عدد المسلمين لا يزيد على ثلاثة آلاف قبل الهدنة صار عدد الجيش الإسلامي في سنتين عند فتح مكة عشر آلاف. أما البند الثاني فهو جزء ثان لهذا الفتح المبين، فالمسلمون لم يكونوا بادئين بالحروب، وإنما بدأتها قريش، يقول اللَّه تعالى: {وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [التوبة: 13> أما المسلمون فلم يكن المقصود من دورياتهم العسكرية إلا أن تفيق قريش عن غطرستها وصدها عن سبيل اللَّه وتعمل معهم بالمساواة، كل من الفريقين يعمل على شاكلته فالعقد بوضع الحرب عشر سنين حد لهذه الغطرسة والصد، ودليل على فشل من بدأ الحرب وضعفه وانهياره. أما البند الأول فهو حد لصد قريش عن المسجد الحرام، فهو أيضاً فشل لقريش، وليس فيه ما يشفي قريشاً سوى أنها نجحت في الصد لذلك العام الواحد فقط. أعطت قريش هذه الخلال الثلاث للمسلمين، وحصلت بإزائها خلة واحدة فقط، وهي ما في البند الرابع، ولكن تلك الخلة تافهة جداً، ليس فيها شيء يضر بالمسلمين، فمعلوم أن المسلم ما دام مسلماً لا يفر عن اللَّه ورسوله، وعن مدينة الإسلام، ولا يفر إلا إذا ارتد عن الإسلام ظاهراً أو باطناً، فإذا ارتد فلا حاجة إليه للمسلمين وانفصاله من المجتمع الإسلامي خير من بقائه فيه، وهذا الذي أشار إليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بقوله إنه من ذهب منا إليهم فأبعده اللَّه. وأما من أسلم من أهل مكة فهو وإن لم يبق للجوئه إلى المدينة سبيل لكن أرض اللَّه واسعة، ألم تكن الحبشة واسعة للمسلمين حينما لم يكن يعرف أهل المدينة عن الإسلام شيئاً؟ وهذا الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله ومن جاءنا منهم سيجعل اللَّه له فرجاً ومخرجاً. والأخذ بمثل هذا الاحتفاظ، وإن كان مظهر الاعتزاز لقريش، لكنه في الحقيقة ينبىء عن شدة انزعاج قريش وهلعهم وخورهم. وعن شدة خوفهم على كيانهم الوثني. وكأنهم كانوا قد أحسوا أن كيانهم اليوم على شفا جرف هار. لا بد له من الأخذ بمثل هذا الاحتفاظ. وما سمح به النبي صلى الله عليه وسلم من أنه لا يسترد من فرّ إلى قريش من المسلمين، فليس هذا إلا دليلاً على أنه يعتمد على تثبيت كيانه وقوته كمال الاعتماد، ولا يخاف عليه من مثل هذا الشرط. حزن المسلمين ومناقشة عمر مع النبي صلى الله عليه وسلم: هذه هي حقيقة بنود هذه الهدنة، لكن هناك ظاهرتان عمت لأجلهما المسلمين كآبة وحزن شديد، الأولى: أنه كان قد أخبرهم أنا سنأتي البيت فنطوف به، فماله يرجع ولم يطف به؟ الثانية: أنه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وعلى الحق، واللَّه وعد إظهار دينه، فما له قبل ضغط قريش، وأعطى الدنية في الصلح؟ كانت هاتان الظاهرتان مثار الريب والشكوك والوساوس والظنون. وصارت مشاعر المسلمين لأجلهما جريحة، بحيث غلب الهم والحزن على التفكير في عواقب بنود الصلح. ولعل أعظمهم حزناً كان عمر بن الخطاب، فقد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول اللَّه ألسنا على حق وهم على باطل؟ قال: بلى. قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى. قال: ففيم نعطي الدنية في ديننا، ونرجع ولما يحكم بيننا وبينهم؟ قال: يا ابن الخطاب إني رسول اللَّه ولست أعصيه، وهو ناصري ولن يضيعني أبداً. قال: أو ليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: بلى. فأخبرتك أنا نأتيه العام؟ قال: لا. قال: فإنك آتيه ومطوف به. ثم انطلق عمر متغيظاً فأتى أبا بكر، فقال له كما قال لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، ورد عليه أبو بكر، كما رد عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سواء. وزاد فاستمسك بغررزه حتى تموت، فواللَّه إنه لعلى الحق. ثم نزلت: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1> الخ فأرسل رسول اللَّه إلى عمر فأقرأه إياه. فقال: يا رسول اللَّه أو فتح هو؟ قال: نعم. فطابت نفسه ورجع. ثم ندم عمر على ما فرط منه ندماً شديداً قال عمر فعمدت لذلك أعمالاً، ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ، مخافة كلامي الذي تكلمت به، حتى رجوت أن يكون خيراً. انحلت أزمة المستضعفين: ولما رجع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، واطمأن بها، انفلت رجل من المسلمين، ممن كان يعذب في مكة، وهو أبو بصير رجل من ثقيف حليف لقريش، فأرسلوا في طلبه رجلين وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم العهد الذي جعلت لنا. فدفعه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرجلين. فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة، فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين واللَّه إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيداً. فاستله الآخر، فقال: أجل. واللَّه إنه لجيد، لقد جربت به ثم جربت. فقال أبو بصير أرني أنظر إليه؛ فأمكنه منه فضربه حتى برد. وفر الآخر حتى أتى المدينة، فدخل المسجد يعدو، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين رآه لقد رأى هذا ذعراً، فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: قتل صاحبي، وإني لمقتول، فجاء أبو بصير وقال: يا نبي اللَّه، قد واللَّه أوفى اللَّه ذمتك، قد رددتني إليهم، ثم أنجاني اللَّه منهم، قال رسول اللَّه ويل أمة، مسعر حرب لو كان له أحد، فلما سمع ذلك عرف أن سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر، وينفلت منهم أبو جندل بن سهيل، فلحق بأبي بصير، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة. فواللَّه ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها. فقتلوهم وأخذوا أموالهم. فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده اللَّه والرحم لما أرسل. فمن أتاه فهو آمن، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم ، فقدموا عليه المدينة. إسلام أبطال من قريش: وفي أوائل سنة 7 من الهجرة بعد هذه الهدنة أسلم عمرو بن العاص وخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة، ولما حضروا عند النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن مكة قد ألقت إلينا أفلاذ كبدها.