بقية السرايا والغزوات في السنة السابعة
غزوة ذات الرقاع: ولما فرغ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن كسر جناحين قويين من أجنحة الأحزاب الثلاثة تفرغ تماماً للالتفات إلى الجناح الثالث، أي إلى الأعراب القساة الضاربين في فيافي نجد والذين ما زالوا يقومون بأعمال النهب والسلب بين آونة وأخرى. ولما كان هؤلاء البدو لا تجمعهم بلدة أو مدينة، ولم يكونوا يقطنون الحصون والقلاع كانت الصعوبة في فرض السيطرة عليهم وإخماد نار شرهم تماماً تزداد بكثير عما كانت بالنسبة إلى أهل مكة وخيبر، ولذلك لم تكن تجدي فيهم إلا حملات التأديب والإرهاب. وقام المسلمون بمثل هذه الحملات مرة بعد أخرى.
فرض الشوكة أو لاجتماع البدو الذين كانوا
يحتشدون للإغارة على أطراف المدينة قام رسول
اللَّه صلى الله عليه وسلم بحملة تأديبية عرفت
بغزوة ذات الرقاع. وعامة أهل المغازي يذكرون هذه
الغزوة في السنة الرابعة، ولكن مساهمة أبي موسى
الأشعري وأبي هريرة رضي اللَّه عنهما في هذه
الغزوة تدل على وقوعها بعد خيبر، والأغلب أنها
وقعت في شهر ربيع الأول سنة 7هـ. وملخص ما ذكره
أهل السير حول هذه الغزوة أن النبي صلى الله عليه
وسلم سمع باجتماع أنمار أو بني ثعلبة وبني محارب
من غطفان، فأسرع بالخروج إليهم في أربعمائة أو
سبعمائة من أصحابه، واستعمل على المدينة أبا ذر أو
عثمان بن عفان، وسار فتوغل في بلادهم حتى وصل إلى
موضع يقال له نخل على بعد يومين من المدينة ولقي
جمعاً من غطفان فتوافقوا ولم يكن بينهم قتال، إلا
أنه صلى بهم يومئذ صلاة الخوف. وفي البخاري عن أبي
موسى الأشعري رضي اللَّه عنه قال: خرجنا مع رسول
اللَّه صلى الله عليه وسلم ونحن ستة نفر بيننا
بعير نتعقبه، فنقبت أقدامنا، ونقبت قدماي وسقطت
أظفاري، فكنا نلف على أرجلنا الخرق، فسميت ذات
الرقاع لما كنا نعصب الخرق على أرجلنا. وفيه عن
جابر كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بذات
الرقاع، فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها للنبي
صلى الله عليه وسلم ، فنزل رسول اللَّه صلى الله
عليه وسلم ، وتفرق الناس في العضاة، يستظلون
بالشجر، ونزل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تحت
شجرة فعلق بها سيفه. قال جابر: فنمنا نومة، فجاء
رجل من المشركين. فاخترط سيف رسول اللَّه صلى الله
عليه وسلم ، فقال: أتخافني؟ قال: لا. قال: فمن
يمنعك مني؟ قال: اللَّه. قال جابر: فإذا رسول
اللَّه صلى الله عليه وسلم يدعونا، فجئنا فإذا
عنده أعرابي جالس. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه
وسلم: إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وهو
في يده صلتاً. فقال لي من يمنعك مني؟ قلت اللَّه،
فها هو ذا جالس، ثم لم يعاتبه رسول اللَّه صلى
الله عليه وسلم . وفي رواية وأقيمت الصلاة فصلى
بطائفة ركعتين، ثم تأخروا، وصلى بالطائفة الأخرى
ركعتين، وكان للنبي صلى الله عليه وسلم أربع،
وللقوم ركعتان. وفي رواية أبي عوانة فسقط السيف من
يده، فأخذه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ،
فقال: من يمنعك مني؟ قال: كن خير آخذ. قال: تشهد
أن لا إله إلا اللَّه وأني رسول اللَّه؟ قال
الأعرابي أعاهدك أن لا أقاتلك، ولا أكون مع قوم
يقاتلونك، قال: فخلى سبيله، فجاء إلى قومه، فقال:
جئتكم من عند خير الناس. وفي رواية البخاري قال
مسدد عن أبي عوانة عن أبي بشر اسم الرجل غورث بن
الحارث قال ابن حجر ووقع عند الواقدي في سبب هذه
القصة أن اسم الأعرابي دعثور، وأنه أسلم. لكن ظاهر
كلامه أنهما قصتان في غزوتين و اللَّه أعلم. وفي
مرجعهم من هذه الغزوة سبوا امرأة من المشركين،
فنذر زوجها أن لا يرجع حتى يهريق دماً في أصحاب
محمد صلى الله عليه وسلم ، فجاء ليلاً، وقد أرصد
رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ربيئة للمسلمين من
العدو وهما عباد بن بشر وعمار بن ياسر، فضرب
عباداً وهو يصلي بسهم فنزعه. ولم يبطل صلاته، حتى
رشقه بثلاثة أسهم، فلم ينصرف منها حتى سلم، فأيقظ
صاحبه، فقال: سبحان اللَّه هلا نبهتني، فقال: إني
كنت في سورة فكرهت أن أقطعها. كان لهذه الغزوة أثر
في قذف الرعب في قلوب الأعراب القساة، وإذا نظرنا
إلى تفاصيل السرايا بعد هذه الغزوة نرى أن هذه
القبائل من غطفان لم تجترىء أن ترفع رأسها بعد هذه
الغزوة، بل استكانت شيئاً فشيئاً حتى استسلمت، بل
وأسلمت، حتى نرى عدة قبائل من هذه الأعراب تقوم مع
المسلمين في فتح مكة، وتغزو حنيناً وتأخذ من
غنائمها، ويبعث إليها المصدقون فتعطى صدقاتها بعد
الرجوع من غزوة الفتح، فإذا تم كسر الأجنحة
الثلاثة التي كانت ممثلة في الأحزاب، وساد المنطقة
الأمن والسلام. واستطاع المسلمون بعد ذلك أن يسدوا
بسهولة كل خلل وثلمة حدثت في بعض المناطق من بعض
القبائل، بل بعد هذه الغزوة بدأت التمهيدات لفتوح
البلدان والممالك الكبيرة، لأن داخل البلاد كانت
الظروف قد تطورت لصالح الإسلام والمسلمين. وبعد
الرجوع من هذه الغزوة أقام رسول اللَّه صلى الله
عليه وسلم إلى شوال سنة 7هـ.وبعث في خلال ذلك عدة
سرايا وهاك بعض تفصيلها: 1. سرية غالب بن عبد
اللَّه الليثي إلى بني الملوح بقديد، في صفر أو
ربيع الأول سنة 7هـ. كان بنو الملوح قد قتلوا
أصحاب بشير بن سويد، فبعثت هذه السرية لأخذ الثأر.
فشنوا الغارة في الليل فقتلوا من قتلوا، وساقوا
النعم، وطاردهم جيش كبير من العدو حتى إذا قرب من
المسلمين نزل مطر، فجاء سيل عظيم حال بين
الفريقين، ونجح المسلمون في بقية الانسحاب. 2.
سرية حسمي في جمادي الثانية سنة 7هـ، وقد مضى
ذكرها في مكاتبة الملوك. 3. سرية عمر بن الخطاب
إلى تربة في شعبان سنة 7هـ. ومعه ثلاثون رجلاً.
كانوا يسيرون الليل ويستخفون في النهار، وأتى
الخبر إلى هوازن فهربوا، وجاء عمر إلى محالهم فلم
يلق أحداً فانصرف راجعاً إلى المدينة. 4. سرية
بشير بن سعد الأنصاري إلى بني مرة بناحية فدك في
شعبان سنة 7هـ في ثلاثين رجلاً. خرج إليهم واستاق
الشاء والنعم، ثم رجع فأدركه الطلب عند الليل،
فرموهم بالنبل حتى فني نبل بشير وأصحابه، فقتلوا
جميعاً إلا بشير فإنه ارتث إلى فدك، فأقام عند
يهود، حتى برأت جراحه، فرجع إلى المدينة. 5. سرية
غالب بن عبد اللَّه الليثي في رمضان سنة 7هـ إلى
بني عوال، وبني عبد بن ثعلبة بالميفعة، وقيل إلى
الحرقات من جحفية في مائة وثلاثين رجلاً، فهجموا
عليهم جميعاً، وقتلوا من أشرف لهم، واستاقوا نعماً
وشاء، وفي هذه السرية قتل أسامة بن زيد نهيك بن
مرداس بعد أن قال: لا إله إلا اللَّه. فقال النبي
صلى الله عليه وسلم ، هلا شققت عن قلبه فتعلم
أصادق هو أم كاذب؟. 6. سرية عبد اللَّه بن رواحة
إلى خيبر في شوال سنة 7هـ في ثلاثين راكباً. وذلك
أن أسير أو بشير بن زرام كان يجمع غطفان لغزو
المسلمين، فأخرجوا أسيراً في ثلاثين من أصحابه،
وأطعموه أن الرسول صلى الله عليه وسلم يستعمله على
خيبر، فلما كانوا بقرقرة نيار وقع بين الفريقين
سوء ظن أفضى إلى قتل أسير وأصحابه الثلاثين. 7.
سرية بشير بن سعد الأنصاري إلى يمن وجبار (بالفتح،
أرض لغطفان وقيل لفزارة وعذرة) في شوال سنة 7هـ في
ثلاثمائة من المسلمين، للقاء جمع كبير تجمعوا
للإغارة على أطراف المدينة، فساروا الليل وكمنوا
النهار، فلما بلغهم مسير بشير هربوا وأصاب بشير
نعماً كثيرة، وأسر رجلين فقدم، بهما إلى المدينة،
إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأسلما. 8.
سرية أبي حدرد الأسلمي إلى الغابة ذكرها ابن القيم
في سرايا السنة السابعة قبل عمرة القضاء، وملخصها
أن رجلاً من جشم بن معاوية أقبل في عدد كبير إلى
الغابة، يريد أن يجمع قيساً على محاربة المسلمين.
فبعث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أبا حدرد مع
رجلين فاختار أبو حدرد خطة حربية حكيمة، وهزم
العدو هزيمة منكرة، واستاق الكثير من الإبل
والغنم. عمرة القضاء: قال الحاكم تواترت الأخبار
أنه صلى الله عليه وسلم لما هل ذو القعدة أمر
أصحابه أن يعتمروا قضاء عمرتهم، وأن لا يتخلف منهم
أحد شهد الحديبية. فخرجوا إلا من استشهد، وخرج معه
آخرون معتمرين، فكانت عدتهم ألفين سوى النساء
والصبيان.أ.هـ واستخلف على المدينة عويف أبا رهم
الغفاري، وساق ستين بدنة، وجعل عليها ناجبة بن
جندب الأسلمي، وأحرم للعمرة من ذي الحليفة، ولبى
المسلمون معه، وخرج مستعداً بالسلاح والمقاتلة،
خشية أن يقع من قريش غدر، فلما بلغ يأجج وضع
الأداة كلها الحجف والمجان والنبل والرماح، وخلف
عليها أوس بن خولي الأنصاري في مائتي رجل، ودخل
بسلاح الراكب والسيوف في القرب. وكان رسول اللَّه
صلى الله عليه وسلم عند الدخول راكباً على ناقته
القصواء، والمسلمون متوشحون السيوف، محدقون برسول
اللَّه صلى الله عليه وسلم يلبون. وخرج المشركون
إلى جبل قعيقعان الجبل الذي في شمال الكعبة ليروا
المسلمين، وقد قالوا فيما بينهم إنه يقدم عليكم
وفد وهنتهم حمى يثرب، فأمر النبي صلى الله عليه
وسلم أصحابه أن يرملوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا
ما بين الركنين. ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرسلوا
الأشواط كلها إلا الإبقاء، وإنما أمرهم بذلك ليري
المشركين قوته كما أمرهم بالاصطباغ أي يكشفوا
المناكب اليمنى ويضعوا طرفي الرداء على اليسرى.
ودخل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مكة من
الثنية التي تطلعه على الحجون وقد صف المشركون
ينظرون إليه فلم يزل يلبي حتى استلم الركن بمحجنة،
ثم طاف، وطاف المسلمون، وعبد اللَّه بن رواحة بين
يدي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يرتجز متوشحاً
بالسيف: خلوا بني الكفار عن سبيله خلوا فكل الخير
في رسوله قد أنزل الرحمن في تنزيله في صحف تتلى
على رسوله يا رب إني مؤمن بقيله إني رأيت الحق في
قبوله بأن خير القتل في سبيله اليوم نضربكم على
تنزيله ضرباً يزيل الهام عن مصيله ويذهل الخليل عن
خليله وفي حديث أنس فقال عمر: يا ابن رواحة بين
يدي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وفي حرم
اللَّه تقول الشعر؟. فقال له النبي صلى الله عليه
وسلم: خل عنه يا عمر، فلهو أسرع فيهم من نضح
النبل. ورمل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
والمسلمون ثلاثة أشواط، فلما رآهم المشركون قالوا:
هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم، هؤلاء أجلد
من كذا وكذا. ولما فرغ من الطواف سعى بين الصفا
والمروة، فلما فرغ من السعي. وقد وقف الهدى عند
المروة قال: هذا المنحر وكل فجاج مكة منحر، فنحر
عند المروة وحلق هناك، وكذلك فعل المسلمون. ثم بعث
ناساً إلى يأجج، فيقيموا على السلاح، ويأتي لأخرون
فيقفون نسكهم ففعلوا. وأقام رسول اللَّه صلى الله
عليه وسلم بمكة ثلاثاً، فلما أصبح من اليوم الرابع
أتوا علياً فقالوا: قل لصاحبك أخرج عنا فقد مضى
الأجل، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم ، ونزل بسرف
فأقام بها. ولما أراد الخروج من مكة تبعتهم ابنة
حمزة، تنادي، يا عم، يا عم، فتناولها علي واختصم
فيها علي وجعفر وزيد فقضى النبي صلى الله عليه
وسلم لجعفر لأن خالتها كانت تحته. وفي هذه العمرة
تزوج النبي صلى الله عليه وسلم بميمونة بنت الحارث
العامرية وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قبل
الدخول في مكة بعث جعفر بن أبي طالب بين يديه إلى
ميمونة فجعلت أمرها إلى العباس، وكانت أختها أم
الفضل تحته. فزوجها إياه، فلما خرج من مكة خلف أبا
رافع ليحمل ميمونة إليه حين يمشي فبنى بها بسرف.
وسميت هذه العمرة بعمرة القضاء، إما لأنها كانت
قضاء عن عمرة الحديبية أو لأنها وقعت حسب المقاضاة
أي المصالحة التي وقعت في الحديبية، والوجه الثاني
رجحه المحققون وهذه العمرة تسمى بأربعة أسماء
القضاء، والقضية، والقصاص، والصلح. 1. سرية ابن
أبي العوجاء، في ذي الحجة سنة 7هـ في خمسين رجلاً
بعثه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، ليدعوهم
إلى الإسلام، فقالوا: لا حاجة لنا إلى ما دعوتنا،
ثم قاتلوا قتالاً شديداً، وجرح فيه أبو العوجاء،
وأسر رجلان من العدو. 2. سرية غالب بن عبد اللَّه
إلى مصاب أصحاب بشير بن سعد بفدك في صفر سنة 8هـ
بعث في مائتي رجل، فأصابوا من العدو نعماً، وقتلوا
منهم قتلى. 3. سرية ذات أطلح في ربيع الأول سنة
8هـ كانت بنو قضاعة قد حشدت جموعاً كبيرة للإغارة
على المسلمين، فبعث إليهم رسول اللَّه صلى الله
عليه وسلم كعب بن عمير الأنصاري في خمسة عشر
رجلاً، فلقوا العدو، فدعوهم إلى الإسلام فلم
يستجيبوا لهم، وأرشقوهم بالنبل حتى استشهد كلهم
إلا رجل واحد، فقد ارتث من بين القتلى. 4. سرية
ذات عرق إلى بني هوازن في ربيع الأول سنة 8هـ.
كانت بنو هوازن قد أمدت الأعداء مرة بعد أخرى
فأرسل إليه شجاع بن وهب الأسدي في خمس وعشرين
رجلاً، فاستاقوا نعماً من العدو ولم يلقوا كيداً.
معركة مؤتة: وهذه المعركة أكبر لقاء مثخن، وأعظم
حرب دامية خاضها المسلمون في حياة رسول اللَّه صلى
الله عليه وسلم ، وهي مقدمة وتمهيد لفتوح بلدان
النصارى، وقعت في جمادي الأولى سنة 8هـ، وفق أغسطس
أو سبتمبر سنة 629م. ومؤتة (بالضم فالسكون) هي
قرية بأدنى بلقاء الشام، بينها وبين بيت المقدس
مرحلتان. سبب المعركة: وسبب هذه المعركة أن رسول
اللَّه صلى الله عليه وسلم بعث الحارث بن عمير
الأزدي بكتابه إلى عظيم بصري. فعرض له شرحبيل بن
عمرو الغساني وكان عاملاً على البلقاء من أرض
الشام من قبل قيصر فأوثقه رباطاً، ثم قدمه، فضرب
عنقه. وكان قتل السفراء والرسل من أشنع الجرائم،
يساوي بل يزيد على إعلان حالة الحرب، فاشتد ذلك
على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين نقلت إليه
الأخبار، فجهز إليهم جيشاً قوامه ثلاثة آلاف
مقاتل، وهو أكبر جيش إسلامي لم يجتمع قبل ذلك إلا
في غزوة الأحزاب. أمراء الجيش ووصية رسول اللَّه
صلى الله عليه وسلم إليهم: أمر رسول اللَّه صلى
الله عليه وسلم على هذا البعث زيد بن حارثة، وقال:
إن قتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر فعبد اللَّه بن
رواحة. وعقد لهم لواء أبيض، ودفعه إلى زيد بن
حارثة. وأوصاهم أن يأتوا مقتل الحارث بن عمير، وأن
يدعوا من هناك إلى الإسلام فإن أجابوا وإلا
استعانوا باللَّه عليهم، وقاتلوهم، وقال لهم اغزوا
باسم اللَّه في سبيل اللَّه من كفر باللَّه، لا
تغدروا، ولا تغيروا، ولا تقتلوا وليداً ولا امرأة،
ولا كبيراً فانياً، ولا منعزلاً بصومعة، ولا
تقطعوا نخلاً ولا شجرة، ولا تهدموا بناء. توديع
الجيش الإسلامي وبكاء عبد اللَّه بن رواحة: ولما
تهيأ الجيش الإسلامي للخروج حضر الناس، ودعوا
أمراء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وسلموا
عليهم، وحينئذ بكى أحد أمراء الجيش، عبد اللَّه بن
رواحة، فقالوا: ما يبكيك؟ فقال: أما و اللَّه ما
بي حب الدنيا، ولا صبابة بكم ولكني سمعت رسول
اللَّه صلى الله عليه وسلم يقرأ آية من كتاب
اللَّه يذكر فيها النار {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا
وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا
مَقْضِيًّا} [مريم: 71> فلست أدري كيف لي بالصدر
بعد الورود؟ فقال المسلمون صحبكم اللَّه بالسلامة،
ودفع عنكم وردكم إلينا صالحين غانمين، فقال عبد
اللَّه بن رواحة: لكنني أسأل الرحمن مغفرة وضربة
ذات قرع تقذف الزبدا أو طعنة بيدي حران مجهزة
بحربة تنفذ الأحشاء والكبد حتى يقال إذا مروا على
جدثي يا أرشد اللَّه من غاز، وقد رشدا ثم خرج
القوم، وخرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
مشيعاً لهم حتى بلغ ثنية الوداع، فوقف وودعهم.
تحرك الجيش الإسلامي، ومباغتته حالة رهيبة: وتحرك
الجيش الإسلامي في اتجاه الشمال حتى نزل معان، من
أرض الشام، مما يلي الحجاز الشمالي. وحينئذ نقلت
إليهم الاستخبارات بأن هرقل نازل بمآب من أرض
البلقاء في مائة ألف من الروم، وانضم إليهم من لخم
وجذام وبلقين وبهراء وبلى مائة ألف. المجلس
الاستشاري بمعان: لم يكن المسلمون أدخلوا في
حسابهم لقاء مثل هذا الجيش العرمرم، الذي بوغتوا
به في هذه الأرض البعيدة وهل يهجم جيش صغير، قوامه
ثلاثة آلاف مقاتل فحسب، على جيش كبير عرمرم، مثل
البحر الخضم، قوامه مائتا ألف مقاتل؟ حار
المسلمون، وأقاموا في معان ليلتين يفكرون في
أمرهم، وينظرون ويتشاورون ثم قالوا: نكتب إلى رسول
اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فنخبره بعدد عدونا،
فإما أن يمدنا بالرجال، وإما أن يأمرنا بأمره
فنمضي له. ولكن عبد اللَّه بن رواحة عارض هذا
الرأي، وشجع الناس، قائلاً يا قوم و اللَّه إن
التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون الشهادة. وما نقاتل
الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا
الدين الذي أكرمنا اللَّه به، فانطلقوا، فإنما هي
إحدى الحسنيين، إما ظهور وإما شهادة. وأخيراً
استقر الرأي على ما دعا إليه عبد اللَّه بن رواحة.
الجيش الإسلامي يتحرك نحو العدو: وحينئذ بعد أن
قضى الجيش الإسلامي ليلتين في معان، تحركوا إلى
أرض العدو، حتى لقيتهم جموع هرقل بقرية من قرى
البلقاء يقال لها "مشارف" ثم دنا العدو، وانحاز
المسلمون إلى مؤتة، فعسكروا هناك، وتعبأوا للقتال،
فجعلوا على ميمنتهم قطبة بن قتادة العذري، وعلى
الميسرة عبادة بن مالك الأنصاري. بداية القتال،
وتناوب القواد: وهناك في مؤتة التقى الفريقان،
وبدأ القتال المرير، ثلاثة آلاف رجل يواجهون هجمات
مائتي ألف مقاتل. معركة عجيبة تشاهدها الدنيا
بالدهشة والحيرة، ولكن إذا هبت ريح الإيمان جاءت
بالعجائب. أخذ الراية زيد بن حارثة حب رسول اللَّه
صلى الله عليه وسلم وجعل يقاتل بضراوة بالغة،
وبسالة لا يوجد لها نظير إلا في أمثاله من أبطال
الإسلام، فلم يزل يقاتل ويقاتل حتى شاط في رماح
القوم، وخر صريعاً. وحينئذ أخذ الراية جعفر بن أبي
طالب، وطفق يقاتل قتالاً منقطع النظير، حتى إذا
أرهقه القتال اقتحم عن فرسه الشقراء فعقرها، ثم
قاتل حتى قطعت يمينه، فأخذ الراية بشماله، ولم يزل
بها حتى قطعت شماله، فاحتضنها بعضديه، فلم يزل
رافعاً إياها حتى قتل. يقال: إن رومياً ضربه ضربة
قطعته نصفين، وأثابه اللَّه بجناحيه جناحين في
الجنة، يطير بهما حيث يشاء، ولذلك سمي بجعفر
الطيار، وبجعفر ذي الجناحين. روى البخاري عن نافع
أن ابن عمر أخبره أنه وقف على جعفر يومئذ وهو
قتيل، فعددت به خمسين بين طعنة وضربة، ليس منها
شيء في دبره، يعني ظهره. وفي رواية أخرى قال ابن
عمر كنت فيهم تلك الغزوة، فالتمسنا جعفر بن أبي
طالب فوجدناه في القتلى، ووجدنا ما في جسده بضعاً
وتسعين من طعنة ورمية. وفي رواية العمري عن نافع
زيادة فوجدنا ذلك فيما أقبل من جسده. ولما قتل
جعفر بعد القتال بمثل هذه الضراوة والبسالة أخذ
الراية عبد اللَّه بن رواحة، وتقدم بها.، وهو على
فرسه، فجعل يستنزل نفسه، ويتردد بعض التردد حتى
حاد حيدة ثم قال: أقسمت يا نفس لتنزلنه كارهة أو
لتطاوعنه إن أجلب الناس وشدوا الرنة مالي أراك
تكرهين الجنه ثم نزل، فأتاه ابن عم له بعرق من لحم
فقال: شد بهذا صلبك، فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما
لقيت، فأخذه من يده فانتهس منه نهسة، ثم ألقاه من
يده ثم أخذ سيفه فتقدم، فقاتل حتى قتل. الراية إلى
سيف من سيوف اللَّه: وحينئذ تقدم رجل من بني عجلان
اسمه ثابت بن أرقم فأخذ الراية وقال: يا معشر
المسلمين، اصطلحوا على رجل منكم، قالوا: أنت. قال:
ما أنا بفاعل، فاصطلح الناس على خالد بن الوليد،
فلما أخذ الراية قاتل قتالاً مريراً، فقد روى
البخاري عن خالد بن الوليد قال: لقد انقطعت في يدي
يوم مؤتة تسعة أسياف، فما بقي في يدي إلا صفيحة
يمانية. وفي لفظ آخر لقد دق في يدي يوم مؤتة تسعة
أسياف، وصبرت في يدي صفيحة لي يمانية. وقد قال
رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم مؤتة: مخبراً
بالوحى، قبل أن يأتي إلى الناس الخبر من ساحة
القتال - أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذ جعفر
فأصيب، ثم أخذ ابن رواحة فأصيب وعيناه تذرفان حتى
أخذ الراية سيف من سيوف اللَّه، حتى فتح اللَّه
عليهم. نهاية المعركة: ومع الشجاعة البالغة
والبسالة والضرواة المريرتين كان مستغرباً جداً أن
ينجح هذا الجيش الصغير في الصمود أمام تيارات ذلك
البحر الغطمطم من جيوش الروم. ففي ذلك الوقت أظهر
خالد بن الوليد مهارته ونبوغه في تخليص المسلمين
مما ورطوا أنفسهم فيه. واختلفت الروايات كثيراً
فيما آل إليه أمر هذه المعركة أخيراً. ويظهر بعد
النظر في جميع الروايات أن خالد بن الوليد نجح في
الصمود أمام جيش الرومان طول النهار، في أول يوم
من القتال. وكان يشعر بمسيس الحاجة إلى مكيدة
حربية تلقي الرعب في قلوب الرومان حتى ينجح في
الانحياز بالمسلمين من غير أن يقوم الرومان بحركات
المطاردة. فقد كان يعرف جيداً أن الإفلات من
براثنهم صعب جداً لو انكشف المسلمون، وقام الرومان
بالمطاردة. فلما أصبح اليوم الثاني غيّر أوضاع
الجيش، وعبأه من جديد، فجعل مقدمته ساقه، وميمنته
ميسرة، وعلى العكس، فلما رآهم الأعداء أنكروا
حالهم، وقالوا: جاءهم مدد، فرعبوا، وصار خالد بعد
أن تراآى الجيشان، وتناوشا ساعة يتأخر بالمسلمين
قليلاً قليلاً، مع حفظ نظام جيشه، ولم يتبعهم
الرومان ظناً منهم أن المسلمين يخدعونهم، ويحاولون
القيام بمكيدة ترمي بهم في الصحراء. وهكذا انحاز
العدو إلى بلاده، ولم يفكر في القيام بمطاردة
المسلمين، ونجح المسلمون في الانحياز سالمين، حتى
عادوا إلى المدينة. قتلى الفريقين: واستشهد يومئذ
من المسلمين اثنا عشر رجلاً، أما الرومان، فلم
يُعرف عدد قتلاهم غير أن تفاصيل المعركة تدل على
كثرتهم. أثر المعركة: وهذه المعركة وإن لم يحصل
المسلمون بها على الثأر، الذي عانوا مرارتها لأجله
لكنها كانت كبيرة الأثر لسمعة المسلمين، إنها ألقت
العرب كلها في الدهشة والحيرة، فقد كانت الرومان
أكبر وأعظم قوة على وجه الأرض، وكانت العرب تظن أن
معنى جلادها هو القضاء على النفس وطلب الحتف
بالظلف، فكان لقاء هذا الجيش الصغير ثلاثة آلاف
مقاتل مع ذلك الجيش الضخم العرمرم الكبير مئتا ألف
مقاتل ثم الرجوع عن الغزو من غير أن تلحق به خسارة
تذكر. كان كل ذلك من عجائب الدهر، وكان يؤكد أن
المسلمين من طراز آخر غير ما ألفته العرب وعرفته،
وأنهم مؤيدون ومنصورون من عند اللَّه، وأن صاحبهم
رسول اللَّه حقاً. ولذلك نرى القبائل اللدودة التي
كانت لا تزال تثور على المسلمين جنحت بعد هذه
المعركة إلى الإسلام، فأسلمت بنو سليم وأشجع
وغطفان وذبيان وفزارة وغيرها. وكانت هذه المعركة
بداية اللقاء الدامي مع الرومان، فكانت توطئة
وتمهيداً لفتوح البلدان الرومانية، واحتلال
المسلمين الأراضي البعيدة النائية. سرية ذات
السلاسل: ولما علم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
بموقف القبائل العربية التي تقطن مشارف الشام في
معركة مؤتة من اجتماعهم إلى الرومان ضد المسلمين
شعر بمسيس الحاجة إلى القيام بحكمة بالغة توقع
الفرقة بينها وبين الرومان، وتكون سبباً للائتلاف
بينها وبين المسلمين حتى لا تتحشد مثل هذه الجموع
الكبيرة مرة أخرى. واختار لتنفيذ هذه الخطة عمرو
بن العاص، لأن أم أبيه كانت امرأة من بلى. فبعثه
إليهم في جمادى الآخرة سنة 8هـ على إثر معركة مؤتة
ليستألفهم، ويقال: بل نقلت الاستخبارات أن جمعاً
من قضاعة قد تجمعوا، يريدون أن يدنوا من أطراف
المدينة فبعثه إليهم، ويمكن أن يكون السببان
اجتمعا معاً. وعقد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
لعمرو بن العاص لواء أبيض، وجعل معه راية سوداء،
وبعثه في ثلاثمائة من سراة المهاجرين والأنصار،
ومعهم ثلاثون فرساً وأمره أن يستعين بمن مر به من
بلى وعذرة وبلقين. فسار الليل وكمن النهار، فلما
قرب من القوم بلغه أن لهم جمعاً كثيراً، فبعث رافع
بن مكيث الجهني إلى رسول اللَّه صلى الله عليه
وسلم يستمده، فبعث إليه أبا عبيدة بن الجراح في
مائتين وعقد له لواء، وبعث معه سراة من المهاجرين
والأنصار فيهم أبو بكر وعمر وأمره أن يلحق بعمرو،
وأن يكونا جميعاً ولا يختلفا. فلما لحق به أراد
أبو عبيدة أن يؤم الناس، فقال عمرو إنما قدمت علي
مدداً، وأنا الأمير، فأطاعه أبو عبيدة، فكان عمرو
يصلي بالناس. وسار حتى وطىء بلاد قضاعة، فدوخها
حتى أتى أقصى بلادهم، ولقي في آخر ذلك جمعاً، فحمل
عليهم المسلمون فهربوا في البلاد وتفرقوا. وبعث
عوف بن مالك الأشجعي بريداً إلى رسول اللَّه صلى
الله عليه وسلم فأخبره بقفولهم وسلامتهم، وما كان
في غزاتهم. وذات السلاسل (بضم السين الأولى
وفتحها: لغتان) بقعة وراء وادي القرى بينها وبين
المدينة عشرة أيام. وذكر ابن إسحاق أن المسلمين
نزلوا على ماء بأرض جذام يقال له السلسل، فسمي ذات
السلاسل. سرية أبي قتادة إلى خضرة: كانت هذه
السرية في شعبان سنة 8هـ. وذلك لأن بني غطفان
كانوا يحتشدون في خضرة وهي أرض محارب بنجد فبعث
إليهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أبا قتادة
في خمسة عشر رجلاً فقتل منهم، وسبا وغنم، وكانت
غيبته خمس عشرة ليلة. غزوة فتح مكة: قال ابن القيم
هو الفتح الأعظم الذي أعز اللَّه به دينه ورسوله
وجنده وحزبه الأمين، واستنقذ به بلده وبيته الذي
جعله هدى للعالمين، ومن أيدي الكفار والمشركين،
وهو الفتح الذي استبشر به أهل السماء، وضربت أطناب
عزه على مناكب الجوزاء. ودخل الناس به في دين
اللَّه أفواجاً، وأشرق به وجه الأرض ضياء
وابتهاجاً أ.هـ. سبب الغزوة: قدمنا في وقعة
الحديبية أن بنداً من بنود هذه المعاهدة يفيد أن
من أحب أن يدخل في عقد محمد (صلى الله عليه وسلم )
وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش
وعهدهم دخل فيه، وأن القبيلة التي تنضم إلى أي
الفريقين تعتبر جزءاً من ذلك الفريق، فأي عدوان
تتعرض له أي من تلك القبائل يعتبر عدواناً على ذلك
الفريق. وحسب هذا البند دخلت خزاعة في عهد رسول
اللَّه صلى الله عليه وسلم ، ودخلت بنو بكر في عهد
قريش، وصارت كل من القبيلتين في أمن من الأخرى وقد
كانت بين القبيلتين عداوة وتواترات في الجاهلية
فلما جاء الإسلام، ووقعت هذه الهدنة وأمن كل فريق
من الأخر اغتنمها بنو بكر، وأرادوا أن يصيبوا من
خزاعة الثأر القديم، فخرج نوفل ابن معاوية الديلي
في جماعة من بني بكر في شهر شعبان سنة 8هـ،
فأغاروا على خزاعة ليلاً، وهم على ماء يقال له
"الوتي" فأصابوا منهم رجالاً، وتناوشوا واقتتلوا،
وأعانت قريش بني بكر بالسلاح، وقاتل معهم رجال من
قريش مستغلين ظلمة الليل، حتى حازوا خزاعة إلى
الحرم، فلما انتهوا إليه قالت بنو بكر يا نوفل،
إنا قد دخلنا الحرم، إلهك إلهك، فقال كلمة عظيمة
لا إله اليوم يا بني بكر، أصيبوا ثأركم. فلعمري
إنكم لتسرقون في الحرم أفلا تصيبون ثأركم فيه؟
ولما دخلت خزاعة مكة لجأوا إلى دار بديل بن ورقاء
الخزاعي، وإلى دار مولى لهم يقال له رافع وأسرع
عمرو بن سالم الخزاعي، فخرج حتى قدم على رسول
اللَّه صلى الله عليه وسلم المدينة، فوقف عليه،
وهو جالس في المسجد بين ظهراني الناس فقال: يا رب
إني ناشد محمداً حلفنا وحلف أبيه الأَّتلدا قد
كنتم ولداً وكنا والداً ثمأسة لمنا ولم ننزع يدا
فانصر، هداك اللَّه، نصرا أيد وادع عباد اللَّه
يأتوا مددا فيهم رسول اللَّه قد تجردا أبيض مثلا
البدر، يسمو صعد إن سيم خسفاً وجهه تربدا في فيلق
كالبحر يجري مزبدا إن قريشاً أخلفوك الموعدا
ونقضوا ميثاقك المؤكدا وجعلوا لي في كداء رصدا
وزعموا أن لست أدعو أحدا وهم أزل، وأقل عددا هم
بيتونا بالوتير هجدا وقتلونا ركعا وسجدا فقال رسول
اللَّه صلى الله عليه وسلم: نصرت يا عمرو بن سالم،
ثم عرضت له سحابة من السماء، فقال: إن هذه السحابة
لتستهل بنصر بني كعب. ثم خرج بديل بن ورقاء
الخزاعي في نفر من خزاعة، حتى قدموا على رسول
اللَّه صلى الله عليه وسلم المدينة، فأخبروه بمن
أصيب منهم، وبمظاهرة قريش بني بكر عليهم، ثم رجعوا
إلى مكة. أبو سفيان يخرج إلى المدينة ليجدد الصلح:
ولا شك أن ما فعلت قريش وحلفاؤها كان غدراً محضاً
ونقضاً صريحاً للميثاق لم يكن له أي مبرر، ولذلك
سرعان ما أحست قريش بغدرها، وخافت وشعرت بعواقبه
الوخيمة، فعقدت مجلساً استشارياً، وقررت أن تبعث
قائدها أبا سفيان ممثلاً لها ليقوم بتجديد الصلح.
وقد أخبر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أصحابه
بما ستفعله قريش إزاء غدرتهم. قال: كأنكم بأبي
سفيان قد جاءكم ليشد العقد، ويزيد في المدة. وخرج
أبو سفيان حسب ما قررته قريش فلقي بديل بن ورقاء
بعسفان وهو راجع من المدينة إلى مكة فقال: من أين
أقبلت يا بديل؟ وظن أنه أتى النبي صلى الله عليه
وسلم فقال: سرت في خزاعة في هذا الساحل وفي بطن
هذا الوادي. قال: أو ما جئت محمداً؟ قال: لا. فلما
راح بديل إلى مكة قال أبو سفيان لئن كان جاء
المدينة لقد علف بها النوى، فأتى مبرك راحلته،
فأخذ من بعرها ففته، فرأى فيها النوى، فقال: أحلف
باللَّه لقد جاء بديل محمداً. وقدم أبو سفيان
المدينة، فدخل على ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس
على فراش رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم طوته
عنه، فقال: يا بنية، أرغبت بي عن هذا الفراش، أم
رغبت به عني؟ قالت: بل هو فراش رسول اللَّه صلى
الله عليه وسلم ، وأنت رجل مشرك نجس، فقال:
واللَّه لقد أصابك بعدي شر. ثم خرج حتى أتى رسول
اللَّه صلى الله عليه وسلم فكلمه، فلم يرد عليه
شيئاً ثم ذهب إلى أبي بكر فكلمه أن يكلم رسول
اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فقال: ما أنا بفاعل.
ثم أتى عمر بن الخطاب فكلمه، فقال: أأنا أشفع لكم
إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ؟ فواللَّه لو
لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به، ثم جاء فدخل على علي
بن أبي طالب، وعنده فاطمة، وحسن غلام يدب بين
يديهما، فقال: يا علي، إنك أمس القوم بي رحما،
وأني قد جئت في حاجة، فلا أرجعن كما جئت خائباً
اشفع لي إلى محمد، فقال: ويحك يا أبا سفيان، لقد
عزم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وعلى أمر ما
نستطيع أن نكلمه فيه. فالتفت إلى فاطمة، فقال: هل
لك أن تأمري ابنك هذا فيجير بين الناس، فيكون سيد
العرب إلى آخر الدهر؟ قالت: واللَّه ما يبلغ ابني
ذاك أن يجير بين الناس، وما يجير أحد على رسول
اللَّه صلى الله عليه وسلم . وحينئذ أظلمت الدنيا
أمام عيني أبي سفيان، فقال لعلي بن أبي طالب في
هلع وانزعاج ويأس وقنوط يا أبا الحسن إني أرى
الأمور قد اشتدت علي، فانصحني قال: واللَّه ما
أعلم لك شيئاً يغني عنك. ولكنك سيد بني كنانة، فقم
فأجر بين الناس، ثم الحق بأرضك. قال: أو ترى ذلك
مغنياً عني شيئاً؟ قال: لا واللَّه ما أظنه، ولكني
لم أجد لك ذلك. فقام أبو سفيان في المسجد، فقال:
أيها الناس، إني قد أجرت بين الناس، ثم ركب بعيره،
وانطلق. ولما قدم على قريش، قالوا: ما وراءك؟ قال:
جئت محمداً فكلمته، فواللَّه ما رد علي شيئاً، ثم
جئت ابن أبي قحافة فلم أجد فيه خيراً، ثم جئت عمر
بن الخطاب، فوجدته أدنى العدو، ثم جئت علياً
فوجدته ألين القوم، قد أشار علي بشيء صنعته،
فواللَّه ما أدري هل يغني عني شيئاً أم لا؟ قالوا:
وبم أمرك؟ قال: لا. قالوا: ويلك، إن زاد الرجل على
أن لعب بك. قال: لا واللَّه ما وجدت غير ذلك.
التهيؤ للغزوة ومحاولة الإخفاء: يؤخذ من رواية
الطبراني أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أمر
عائشة قبل أن يأتي إليه خبر نقض الميثاق بثلاثة
أيام أن تجهزه، ولا يعلم أحد، فدخل عليها أبو بكر،
فقال: يا بنية ما هذا الجهاز؟ قالت: واللَّه ما
أدري. فقال: واللَّه ما هذا زمان غزو بني الأصفر،
فأين يريد رسول اللَّه؟ قالت: واللَّه لا علم لي،
وفي صباح الثالثة جاء عمرو بن سالم الخزاعي في
أربعين راكباً، وارتجز يا رب إني ناشد محمداً..
الأبيات. فعلم الناس بنقض الميثاق، وبعد عمرو جاء
بديل ثم أبو سفيان وتأكد عند الناس الخبر، فأمرهم
رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالجهاز، وأعلمهم
أنه سائر إلى مكة. وقال: اللهم خذ العيون الأخبار
عن قريش حتى نبغتها في بلادها. وزيادة في الإخفاء
والتعمية بعث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سرية
قوامها ثمانية رجال تحت قيادة أبي قتادة بن ربعي
إلى بطن أضم فيما بين ذي خشب وذي المروة على ثلاثة
برد من المدينة، في أول شهر رمضان سنة 8هـ، ليظن
الظان أنه صلى الله عليه وسلم يتوجه إلى تلك
الناحية، ولتذهب بذلك الأخبار، وواصلت هذه السرية
سيرها، حتى إذا وصلت حيثما أمرت بلغها أن رسول
اللَّه صلى الله عليه وسلم وسلم خرج إلى مكة،
فسارت إليه حتى لحقته. وكتب حاطب بن أبي بلتعة إلى
قريش كتاباً يخبرهم بمسير رسول اللَّه صلى الله
عليه وسلم إليهم، ثم أعطاه امرأة،وجعل لها جعلاً
على أن تبلغه قريشاً، فجعلته في قرون رأسها، ثم
خرجت به، وأتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
الخبر من السماء بما صنع حاطب، فبعث علياً
والمقداد، فقال: انطلقا حتى تأتيا روضة خاخ، فإن
بها ظعينة معها كتاب إلى قريش، فانطلقا تعادي بهما
خيلهما حتى وجدا المرأة بذلك المكان، فاستنزلاها،
وقالا معك كتاب؟ فقالت: ما معي كتاب، ففتشا رحلها
فلم يجدا شيئاً. فقال لها علي: أحلف باللَّه، ما
كذب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ولا كذبنا،
واللَّه لتخرجن الكتاب أو لنجردنك. فلما رأت الجد
منه قالت: أعرض، فأعرض، فحلت قرون رأسها، فاستخرجت
الكتاب منها، فدفعته إليهما، فأتيا به رسول اللَّه
صلى الله عليه وسلم ، فإذا فيه من حاطب بن أبي
بلتعة إلى قريش يخبرهم بمسير رسول اللَّه صلى الله
عليه وسلم ، فدعا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
حاطباً، فقال: ما هذا يا حاطب؟ فقال: لا تعجل علي
يا رسول اللَّه واللَّه إني لمؤمن باللَّه ورسوله
وما ارتددت ولا بدلت، ولكني كنت امرأ ملصقاً في
قريش، لست من أنفسهم، ولي فيهم أهل وعشيرة وولد،
وليس لي فيهم قرابة يحمونهم، وكان من معك لهم
قرابات يحمونهم، فأحببت إذ فاتني ذلك أن أتخذ
عندهم يدا يحمون بها قرابتي. فقال عمر بن الخطاب
دعني يا رسول اللَّه أضرب عنقه، فإنه قد خان
اللَّه ورسوله، وقد نافق، فقال رسول اللَّه صلى
الله عليه وسلم إنه قد شهد بدراً، وما يدريك يا
عمر لعل اللَّه قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا
ما شئتم فقد غفرت لكم، فذرفت عينا عمر، وقال:
اللَّه ورسوله أعلم. وهكذا أخذ اللَّه العيون، فلم
يبلغ إلى قريش أي خبر من أخبار تجهز المسلمين
وتهيئهم للزحف والقتال. الجيش الإسلامي يتحرك نحو
مكة: ولعشر خلون من شهر رمضان المبارك سنة ه غادر
رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المدينة متجهاً
إلى مكة، في عشرة آلاف من الصحابة رضي اللَّه عنهم
واستخلف على المدينة أبا ذرّ الغفاري. ولما كان
بالجحفة أو فوق ذلك لقيه عمه العباس بن عبد
المطلب، وكان قد خرج بأهله وعياله مسلماً مهاجراً،
ثم لما كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
بالأبواء لقيه ابن عمه أبو سفيان بن الحارث وابن
عمته عبد اللَّه بن أبي أمية، فأعرض عنهما، لما
كان يلقاه منهما من شدة الأذى والهجو، فقالت له أم
سلمة لا يكن ابن عمك وابن عمتك أشقى الناس بك.
وقال علي لأبي سفيان بن الحارث ائت رسول اللَّه
صلى الله عليه وسلم من قبل وجهه فقل له ما قال
إخوة يوسف ليوسف: {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ
آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا
لَخَاطِئِينَ} [يوسف: 91> فإنه لا يرضى أن يكون
أحد أحسن منه قولاً، ففعل ذلك أبو سفيان، فقال له
رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:{لا تَثْرِيبَ
عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ
وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 92> فأنشده
أبو سفيان أبياتاً منها لعمرك إني حين أحمل راية
لتغلب خيل اللات خيل محمد لك لمدلج الحيران أظلم
ليله فهذا أواني حين أهدى فأهتدى هداني هاد غير
نفسي ودلني على اللَّه من طردته كل مطرد فضرب رسول
اللَّه صلى الله عليه وسلم صدره وقال: أنت طردتني
كل مطرد. الجيش الإسلامي ينزل بمر الظهران: وواصل
رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سيره وهو صائم،
والناس صيام، حتى بلغ الكديد وهو ماء بين عسفان
وقديد فأفطر وأفطر الناس معه. ثم واصل سيره حتى
نزل بمر الظهران وادي فاطمة نزله عشاءً، فأمر
الجيش، فأوقدوا النيران، فأوقدت عشرة آلاف نار،
وجعل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على الحرس
عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه. أبو سفيان بين يدي
رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : وركب العباس بعد
نزول المسلمين بمر الظهران بغلة رسول اللَّه صلى
الله عليه وسلم البيضاء. وخرج يلتمس لعله يجد بعض
الحطابة أو أحداً يخبر قريشاً ليخرجوا يستأمنون
رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قبل أن يدخلها.
وكان اللَّه قد عمى الأخبار عن قريش، فهم على وجل
وترقب، وكان أبو سفيان يخرج يتجسس الأخبار، فكان
قد خرج هو وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء يتجسسون
الأخبار. قال العباس و اللَّه إني لأسير عليها أي
على بغلة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذ سمعت
كلام أبي سفيان وبديل بن ورقاء، وهما يتراجعان،
وأبو سفيان يقول ما رأيت كالليلة نيراناً قط ولا
عسكراً. قال: يقول بديل هذه واللَّه خزاعة، خمشتها
الحرب، فيقول أبو سفيان خزاعة أقل وأذل من أن تكون
هذه نيرانها وعسكرها. قال العباس فعرفت صوته، فقلت
أبا حنظلة؟ فعرف صوتي، فقال: أبا الفضل؟ قلت نعم.
قال: مالك؟ فداك أبي وأمي. قلت هذا رسول اللَّه
صلى الله عليه وسلم في الناس، واصباح قريش
واللَّه. قال: فما الحيلة؟ فداك أبي وأمي، قلت
واللَّه لئن ظفر بك ليضربن عنقك فاركب في عجز هذه
البغلة، حتى آتي بك رسول اللَّه صلى الله عليه
وسلم فأستأمنه لك، فركب خلفي، ورجع صاحباه. قال:
فجئت به، فكلما مررت به على نار من نيران
المسلمين، قالوا: من هذا؟ فإذا رأوا بغلة رسول
اللَّه صلى الله عليه وسلم وأنا عليها قالوا: عم
رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على بغلته. حتى
مررت بنار عمر بن الخطاب، فقال: من هذا؟ وقام إلي.
فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابة قال: أبو
سفيان، عدو اللَّه؟ الحمد للَّه الذي أمكن منك
بغير عقد ولا عهد، ثم خرج يشتد نحو رسول اللَّه
صلى الله عليه وسلم ، وركضت البغلة فسبقت، فاقتحمت
عن البغلة، فدخلت على رسول اللَّه صلى الله عليه
وسلم ،ودخل عليه عمر، فقال: يا رسول اللَّه، هذا
أبو سفيان فدعني أضرب عنقه، قال: قلت يا رسول
اللَّه، إني قد أجرته، ثم جلست إلى رسول اللَّه،
إني قد أجرت، ثم جلست إلى رسول اللَّه صلى الله
عليه وسلم فأخذت برأسه، فقلت واللَّه لا يناجيه
الليلة أحد دوني، فلما أكثر عمر في شأنه قلت مهلاً
يا عمر، فواللَّه لو كان من رجال بني عدي ابن كعب
ما قلت مثل هذا، قال: مهلاً يا عباس، فواللَّه
لإسلامك كان أحب إلى من إسلام الخطاب، لو أسلم،
وما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى
رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب.
فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم اذهب به يا
عباس إلى رحلك، فإذا أصبحت فأتني به، فذهبت، فلما
أصبحت غدوت به إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
، فلما رآه قال: ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن
تعلم أن لا إله إلا اللَّه؟ قال: بأبي أنت وأمي،
ما أحلمك وأكرمك وأوصلك؟ لقد ظننت أن لو كان مع
اللَّه إله غيره لقد أغنى عني شيئاً بعد. قال:
ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أني رسول
اللَّه، قال: بأبي أنت وأمي، ما أحملك وأكرمك
وأوصلك؟ أما هذه فإن في النفس حتى الآن منها شيء.
فقال له العباس ويحك اسلم، وأشهد أن لا إله إلا
اللَّه، وأن محمداً رسول اللَّه، قبل أن تضرب
عنقك، فأسلم وشهد شهادة الحق. قال العباس يا رسول
اللَّه إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له
شيئاً، قال: نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن،
ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد
الحرام فهو آمن. الجيش الإسلامي يغادر مر الظهران
إلى مكة: وفي هذا الصباح - صباح يوم الثلاثاء
للسابع عشر من شهر رمضان سنة 8هـ - غادر رسول
اللَّه صلى الله عليه وسلم مر الظهران إلى مكة،
وأمر العباس أن يحبس أبا سفيان بمضيق الوادي عند
حطم الجبل، حتى تمر به جنود اللَّه فيراها، ففعل،
فمرت القبائل على راياتها، كلما مرت به قبيلة قال:
يا عباس من هذه؟ فيقول مثلاً سليم، فيقول ما لي
ولسليم؟ ثم تمر به القبيلة فيقول يا عباس من
هؤلاء؟ فيقول مزينة، فيقول ما لي ولمزينة؟ حتى
نفدت القبائل، ما تمر به قبيلة إلا سأل العباس
عنها، فإذا أخبره قال: ما لي ولبني فلان؟ حتى مر
به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في كتيبته
الخضراء، فيها المهاجرون والأنصار، لا يرى منهم
إلا الحدق من الحديد، قال: سبحان اللَّه يا عباس
من هؤلاء؟ قال: هذا رسول اللَّه صلى الله عليه
وسلم في المهاجرين والأنصار. قال: ما لأحد بهؤلاء
قبل ولا طاقة. ثم قال: واللَّه يا أبا الفضل لقد
أصبح ملك ابن أخيك اليوم عظيماً. قال العباس: يا
أبا سفيان، إنها النبوة، قال: فنعم إذن. وكانت
راية الأنصار مع سعد بن عبادة، فلما مر بأبي سفيان
قال له اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة،
اليوم أذل اللَّه قريشاً، فلما حاذى رسول اللَّه
صلى الله عليه وسلم أبا سفيان قال: يا رسول اللَّه
ألم تسمع ما قال سعد؟ قال: وما قال؟ فقال: كذا
وكذا. فقال عثمان وعبد الرحمن بن عوف يا رسول
اللَّه ما نأمن أن يكون له في قريش صولة، فقال
رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بل اليوم يوم تعظم
فيه الكعبة، اليوم يوم أعز اللَّه فيه قريشاً، ثم
أرسل إلى سعد فنزع منه اللواء، ودفعه إلى ابنه
قيس، ورأى أن اللواء لم يخرج عن سعد. وقيل: بل
دفعه إلى الزبير. قريش تباغت زحف الجيش الإسلامي:
ولما مر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بأبي
سفيان قال له العباس النجاء إلى قومك. فأسرع أبو
سفيان حتى دخل مكة، وصرخ بأعلى صوته يا معشر قريش،
هذا محمد، قد جاءكم فيما لا قبل لكم به. فمن دخل
دار أبي سفيان فهو آمن. فقامت إليه زوجته هند بنت
عتبة فأخذت بشاربه فقالت: اقتلوا الحميت الدسم
الأخمش الساقين، قبح من طليعة قوم. قال أبو سفيان
ويلكم، لا تغرنكم هذه من أنفسكم، فإنه قد جاءكم
بما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو
آمن. قالوا: قاتلك اللَّه، وما تغني عنا دارك؟
قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد
فهو آمن. فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد،
وبشوا أو باشاً لهم، وقالوا: نقدم هؤلاء فإن كان
لقريش شيء كنا معهم وإن أصيبوا أعطينا الذي سئلنا
فتجمع سفهاء قريش وأخفاؤها مع عكرمة بن أبي جهل،
وصفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو بالجندمة ليقاتلوا
المسلمين وكان فيهم رجل من بني بكر حماس بن قيس
كان يعد قبل ذلك سلاحاً، فقالت له امرأته لماذا
تعد ما أرى؟ قال: لمحمد وأصحابه. قالت: واللَّه ما
يقوم لمحمد وأصحابه شيء. قال: إني وأصحابه شيء.
قال: إني واللَّه لأرجو أن أخدمك بعضهم، ثم قال:
إن يقبلوا اليوم فما لي عله هذا سلاح كامل وآله
وذو غرارين سريع السله فكان هذا الرجل فيمن
اجتمعوا في الخندمة. الجيش الإسلامي بذي طوى: أما
رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فمضى حتى انتهى
إلى ذي طوى وكان يضع رأسه تواضعاً للَّه حين رأى
ما أكرمه اللَّه به من الفتح، حتى أن شعر لحيته
ليكاد يمس واسطة الرجل وهناك وزع جيشه وكان خالد
بن الوليد على المجنبة اليمنى وفيها أسلم وسليم
وغفار ومزينة وجهينة وقبائل من قبائل العرب فأمره
أن يدخل مكة من أسفلها، وقال: إن تعرض لكم أحد من
قريش فاحصدوهم حصداً، حتى توافوني على الصفا. وكان
الزبير بن العوام على المجنبة اليسرى، وكان معه
راية رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فأمره أن
يدخل مكة من أعلاها من كداء وأن يغرز رايته
بالحجون، ولا يبرح حتى يأتيه. وكان أبو عبيدة على
الرحالة والحسر وهم الذين لا سلاح معهم فأمره أن
يأخذ بطن الوادي حتى ينصب لمكة بين يدي رسول
اللَّه صلى الله عليه وسلم . الجيش الإسلامي يدخل
مكة: وتحركت كل كتيبة من الجيش الإسلامي على
الفريق التي كلفت الدخول منها. فأما خالد وأصحابه
فلم يلقهم أحد من المشركين إلا أناموه. وقتل من
أصحابه من المسلمين كرز بن جابر الفهري وخنيس بن
خالد بن ربيعة. كانا قد شذا عن الجيش، فسلكا
طريقاً غير طريقه فقتلا جميعاً، وأما سفهاء قريش
فلقيهم خالد وأصحابه بالخندمة فناوشوهم شيئاً من
قتال، فأصابوا من المشركين اثني عشر رجلا فانهزم
المشركون وانهدم حماس بن قيس - الذي كان يعد
السلاح لقتال المسلمين حتى دخل بيته، فقال لامرأته
أغلقي بابي. فقالت: وأين ما كنت تقول؟ فقال: إنك
لو شهدت يوم الخندمة إذ فر صفوان وفر عكرمة
واستقبلنا بالسيوف المسلمه يقطعن كل ساعد وجمجمه
ضرباً فلا يسمع إلا غمغمه لهم نهيت خلفنا وهمهمه
لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه وأقبل خالد يجوس مكة
حتى وافى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على
الصفا. وأما الزبير فتقدم حتى نصب راية رسول
اللَّه صلى الله عليه وسلم بالحجون عند مسجد
الفتح، وضرب له هناك قبة، فلم يبرح حتى جاءه رسول
اللَّه صلى الله عليه وسلم . الرسول صلى الله عليه
وسلم يدخل المسجد الحرام ويطهره من الأصنام: ثم
نهض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، والمهاجرون
والأنصار بين يديه وخلفه وحوله، حتى دخل المسجد،
فأقبل إلى الحجر الأسود، فاستلمه، ثم طاف بالبيت،
وفي يده قوس، وحول البيت وعليه ثلاثمائة وستون
صنماً، فجعل يطعنها بالقوس، ويقول: {جَاءَ
الْحَقُّ وَزَهَ